اللاجئون اليمنيون في هولندا: من حلم الأمان إلى واقع الرفض

,نقلاً عن المركز الاوربي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

زكريا كرش صحفي يمني Zakarya Karash

 صرخة من مركز اللجوء

كان يظن أن الخوف سينتهي عند بوابة مركز “تير آبل، لكنّ الرسالة التي تلقاها بعد أشهر من الانتظار كانت أكثر رعبًا من صوت الرصاص في قريته.

لم تُكتب فيها كلمة “مرفوض”، لكنها كانت تقولها بطرق أخرى: اليمن بلد شبه آمن، والعودة ممكنة… لكنه يعلم أن العودة تعني نهاية الحلم، وربما الحياة.

على أبواب المجهول، يقف اللاجئ اليمني متكئًا على حقيبة لا تحمل سوى بقايا حلم، وصورًا من وطن احترق تحت أقدام الميليشيا وركام الخيبات.

لم تكن هولندا وجهة رفاه، بل كانت شرفة أمل يطل منها على حياة قد تكون أقل وجعًا، أو على الأقل، بلا دويّ قنابل.

لكن حتى هذا الحلم البسيط لم يكتمل، إذ وجد اليمنيون أنفسهم فجأة أمام قرار بارد يصنّف بلدهم المنهك كـ”شبه آمن”، ليتحول الأمان الموعود إلى صراع آخر، واللجوء إلى قفص من الانتظار والقلق، والحياة إلى أوراق ثبوتية ومعايير قانونية تعجز عن فهم حجم الرعب الذي هربوا منه.

بداية المأساة: حرب دفعتهم إلى المنفى

منذ اشتداد الحرب في اليمن عام 2015، تزايدت أعداد اليمنيين الباحثين عن ملاذ آمن، وتوجه كثير منهم إلى أوروبا، وفي مقدمتها هولندا التي فتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين الفارين من جحيم الصراع.

لسنوات، حظي اليمنيون بمعاملة خاصة ضمن إجراءات اللجوء، بالنظر إلى الأوضاع الأمنية المتدهورة في بلدهم، فكانت طلباتهم تُنظر وفقًا لما يُعرف بـ”الإجراءات السريعة”، نظرًا لتصنيف اليمن كدولة غير آمنة.

تصاعد الأعداد: أرقام تكشف حجم الأزمة

تشير التقديرات إلى أن عدد اليمنيين في هولندا قبل عام 2016 بلغ قرابة 6 آلاف شخص، بينما يُقدّر أن العدد قد تجاوز 18 ألفًا بحلول عام 2024 بعد موجات الهجرة المتتالية.

القرار المفاجئ: اليمن “شبه آمن”

غير أن هذا الواقع تغيّر في 18 مارس 2024، حين أصدرت دائرة الهجرة والجنسية الهولندية (IND) قرارًا مفاجئًا باعتبار أجزاء من اليمن “شبه آمنة”، ما شكّل نقطة تحوّل حاسمة في مسار ملفات اللجوء.

لم يعد تصنيف اليمن كدولة غير آمنة سارياً كما في السابق، وأصبح على كل طالب لجوء يمني إثبات أن حياته الشخصية مهددة بشكل مباشر، لا أن يكتفي بكونه قادمًا من بلد يشهد حربًا شاملة.

اللافت أن هذا القرار شمل حتى من أجروا مقابلاتهم الثانية قبل صدوره، وهو ما فُسّر من قبل كثير من اللاجئين كنوع من الإجحاف القانوني، وضاعف من حالة القلق والإحباط بينهم.

كما أن الإجراءات انتقلت من كونها “سريعة” إلى “مطولة”، ما يعني تأجيل البت في الطلبات لفترات طويلة، دون ضمان واضح.

واقع مراكز اللجوء: اكتظاظ وانتظار وقلق

في الواقع الميداني، انعكس القرار على مراكز اللجوء التي يعيش فيها اليمنيون. إذ أن هذه المراكز تعاني أصلًا من اكتظاظ ونقص في الرعاية، وتحوّلت إلى أماكن انتظار طويلة ومرهقة نفسيًا.

كثير من اللاجئين يقيمون في غرف مزدوجة، يفتقدون للخصوصية، ويعيشون في حالة من الترقب الدائم لأي قرار قد يُنهي أحلامهم بالإقامة الآمنة.

الهروب إلى المجهول مجددًا

ومنذ صدور القرار، وجد اليمنيون أنفسهم أمام مغامرة جديدة غير محسوبة، فبعد أن اعتقدوا أن نهاية رحلتهم ستكون على الأراضي الهولندية، اختار مئات منهم الهروب إلى بريطانيا عبر قوارب “الموت” انطلاقًا من فرنسا.

وكأنهم يقولون: “إذا كنا سنموت في بلادنا بالرصاص، فالأفضل أن نموت غرقًا ونحن نحاول النجاة.”

يُذكر أن الإحصائيات غير الرسمية تُقدّر أن نحو 1000 يمني غادروا إلى بريطانيا خلال الأشهر الأربعة التي تلت صدور القرار، والعدد في تزايد حتى يومنا هذا.

شهادات من قلب الأزمة

يقول عزت لاجئ يمني: “منذ زمن، كانت إجراءات اللجوء تسير بسلاسة لجميع الجنسيات، لكن عندما وصلنا نحن اليمنيون، تغيرت الأمور 320 درجة، وكأن المعاناة كُتبت علينا وحدنا.”

ويقول محمد: “شاهدت الموت في طريقي إلى هنا، وعندما وصلت ظننت أنني وصلت إلى بر الأمان، لكن الواقع كان أكثر قسوة مما توقعت.”

حراك يمني في وجه القرار

ورغم بعض الاحتجاجات والمظاهرات التي نظمها اليمنيون في عدة مدن هولندية ضد القرار الصادر بحقهم، كان آخرها يوم السبت 12 أبريل الجاري في مدينة لاهاي، إلا أن القرارات لم تتغير حتى الآن، ولا يزال الكثيرون يترقبون مصيرهم بقلق متزايد.

وكانت الأنظار قد توجهت نحو جلسة الاستماع التي عُقدت في المحكمة يوم 16 أبريل الجاري، والتي ناقشت قانونية قرار تصنيف اليمن كدولة “شبه آمنة”، وسط آمال كانت معلّقة بأن تحمل هذه الجلسة بصيص أمل يعيد النظر في مصير آلاف اليمنيين المهددين بالترحيل أو رفض طلباتهم. فهل تُنصف المحكمة طالبي اللجوء اليمنيين وتعيد الإجراءات إلى ما كانت عليه سابقًا؟ أم أن الكفّة ستميل مجددًا لصالح دائرة الهجرة الهولندية، لتضيق الخناق أكثر على من فرّوا من الموت بحثًا عن الحياة؟

رأي شخصي

قبل صدور قرار تصنيف أجزاء من اليمن كـ”شبه آمنة” في مارس 2024، كانت هناك تلميحات متكررة من بعض المحامين الممثلين لطالبي اللجوء، تؤكد أن اليمنيين يُمنحون الحماية بناءً على “الوضع العام”، وهو أمر كان شائعًا ومعروفًا ولا يستدعي كثيرًا من الشرح أو التأكيد.

لكن ما أثار الشكوك هو إلحاق تلك التلميحات بعبارات مثل: “ربما يتغير وضع اليمنيين ويتم إخراجهم من الإجراءات السريعة”، وهي إشارات تسرّبت قبل القرار بعدة شهور، وكان بعض المحامين على علم بها، ربما قبل شهر أو شهرين من صدوره رسميًا.

وبعد صدور القرار، تغيرت لهجة المحامين لتصبح على النحو التالي: “للأسف، تم إخراج اليمنيين من الإجراءات السريعة، وأصبح على كل طالب لجوء إثبات قضيته بقصة شخصية… لكن القرار قد لا يكون دائمًا، وربما تعود الإجراءات لسابق عهدها، لأن اليمن ما زالت غير آمنة بالكامل.”

هذا التسلسل يفتح بابًا للتكهن بأن القرار لم يُبنَ على قناعة راسخة، بل على افتراضات مرنة قابلة للتغيير. بل إن مجرد اعترافهم باحتمالية عودة اليمن إلى قائمة الدول غير الآمنة هو دليل غير مباشر على أن الخطر لم يزل.

في الحقيقة، اليمن غير آمن على الإطلاق. والواقع يؤكد ذلك، خصوصًا مع تجدّد الضربات الجوية، والتوقعات باندلاع مواجهات عنيفة، وزحف بري محتمل نحو العاصمة صنعاء. وكما أكرر دائمًا:

اليمن لن يكون آمنًا في ظل هيمنة الجماعات المسلحة شمالًا وجنوبًا، مهما حاولت بعض الجهات رسم صورة مغايرة.

أخيرََا لا أحد من هؤلاء اللاجئين طلب امتيازات خاصة، ولم يحمل أحدهم أوراقًا مزورة أو روايات ملفقة.

معظمهم حملوا معهم وجعًا صامتًا وأملًا هشًا في مستقبل آمن. واليوم، بعد كل ما واجهوه من مشقة الطريق، ينتظرون في طوابير الترقب، معلقين بين الماضي والحاضر، دون وضوح للمستقبل.

ولسان حال كثير من اليمنيين يقول:

“نحن لا نبحث عن امتيازات، بل نبحث عن الأمان وعن الحياة.”

Please follow and like us:

+ There are no comments

Add yours